تكنولوجيا الاتصالات الحديثة… وخطر الحروب
قبل ولوج تكنولوجيا الإنترنت في حياة الناس لم تكن عملية التواصل على المستوى الاجتماعي أفقيا ممكنة، فأي عملية تواصل كانت تتم عبر وسائل الاتصال التقليدية الأرضية: هاتف، رسائل بريدية، من فم إلى أذن.. وهذه الوسائل لم تكن لها مهمة أخرى سوى إيصال الرسالة من المرسل للمستقبل. فلم يكن هناك أي إمكانية للتفاعل على مستوى جماعي، لأن التواصل كان في اتجاه واحد وبين فردين. ولم يكن من الممكن نقل أي خبر ونشره إلى شرائح واسعة إلى عن طريق الشائعات التي تنتقل بسرعة من شخص إلى آخر في ظل التعتيم الإعلامي من قبل السلطات.
ويعتبر نصف القرن الماضي عصر الإنجازات الكبرى على مستوى الإعلام والاتصال، وأحدث فيهما ثورة كبيرة فاقت بأهميتها وانتشارها وتعدد وسائلها كل ما توصل إليه الإنسان منذ بدايات تدوين لغته التصويرية على جدران الكهوف التي كان يقطنها.
الأقمار الاصطناعية
افتتح السوفييت عهد الأقمار الاصطناعية بقمر (سبوتنيك) في خمسينيات القرن الماضي، وتبعهم الأمريكان سريعا بإرسال قمرهم ( إيرلي بيرد) وهذه الأقمار التي انتشرت فيما بعد كانت تخدم عمليات الرصد والتجسس أكثر من أي شيء آخر، لكن تسخيرها لخدمة الاتصال والإعلام أخذ وقتا أطول، وفكرة تغطية الكرة الأرضية عبر الأقمار الاصطناعية تعود للعالم الأمريكي للخيال العلمي أرثر كلارك الذي تخيل مدارا حول الأرض يبعد حوالي 40 ألف كم أطلق عليه اسم المدار الثابت كون الأقمار تدور في اتجاه دوران الأرض نفسه وبقدر سرعتها، فيكون بذلك ثابتا في منطقة معينة من الكرة الأرضية وهذا المدار يعتبر المدار الأفضل لوضع أقمار الاتصالات التي بدأت تزدهر مع نشوء شبكات الاتصال ( هوت بيرد، انتيلسات، سبوتنيك، عرب سات، نايل سات..وعشرات الشبكات)
وهذه الشبكات تطور باستمرار أقمارها الاصطناعية لتستوعب أكبر قدر من إمكانية إرسال واستقبال المكالمات الهاتفية، والقنوات التلفزيونية والإذاعية، والإنترنت.
انقلاب في عمليات التواصل
هذا التقدم التكنولوجي الذي يتطور باستمرار وباتجاهات مختلفة وصل إلى إمكانية تصميم تطبيقات ما يسمى بوسائل التواصل الاجتماعي (يوتيوب، فيسبوك، تويتر، انستغرام، تيك توك لينكد إن..واتس أب، فايبر، ماسينجر..) وهذه الوسائل الجديدة أصبحت خبزا يوميا لمليارات المستخدمين، وأنشأت شركات كبرى تجني أرباحا خيالية، ولم يعد أحد يتصور حياته دون الإنترنت واشتراكاته في واحدة أو أكثر من هذه الوسائل، التي لعبت دورا هاما في عمليات التواصل على أكثر من صعيد، بل وصارت الشخصيات السياسية والفنية وسواها تعرب عن مواقفها على صفحاتها على تويتر، أو فيسبوك بعد أن كان ذلك حكرا على من هم في السلطة وعبر الصحافة المكتوبة والسمعية البصرية.
وأصبح الهاتف المحمول هو الوسيلة الأساسية للاتصال الذي يوجد اليوم في جيب كل فرد حول العالم، وعبره يمكن التواصل مجانا مع أي فرد أخر في أي بقعة من الكرة الأرضية بل ويرى صورته على الهاتف ويتحدث معه كما لو كان بجانبه، بعد أن كانت خطوط الهاتف الأرضية هي الأساس في عملية الاتصال وكانت معظم المنازل مجهزة بجهاز هاتفي أرضي عبر الكابلات، وتم التخلي عنها اليوم.
الاتصالات… والخصوصيات… والحروب
هذا التقدم الكبير في وسائل الإعلام والاتصال يواجه تحديات كبيرة وخطيرة، فالأنظمة الديكتاتورية المهيمنة يمكنها التلصص على حسابات الأشخاص، وتتبع حركاتهم، وانتهاك خصوصياتهم، كالجيش الإلكتروني السري للنظام السوري مثلا الذي يتتبع مستخدمي الإنترنت وكتاباتهم على تطبيقات مختلفة، وسواه. كما أنها قادرة في أي لحظة أن تقطع اتصال الشبكة العنكبوتية فتعطل الاتصال بين الناس، كما تقوم المحركات الكبرى أيضا على مراقبة حسابات الأشخاص وإلغاء حسابات آخرين كما فعلت فيسبوك مؤخرا وأثارت ضجة كبرى واضطرت حتى على تغيير اسمها لتخطي الفضيحة.
والأخطر من هذا وذاك هو أن تكون الأقمار الاصطناعية التي تقوم بمهمة الاتصالات والبث والاستقبال والإرسال أهدافا عسكرية بين الدول القادرة على تدميرها، كما فعلت روسيا مؤخرا في تفجيرها لقمر اصطناعي على مداره بصاروخ موجه مبتكر أثار حفيظة الولايات المتحدة، وأعضاء حلف شمال الأطلسي، ومخاوف العديد من الدول الذين دانوا التجربة واعتبروها تهديدا مباشرا على مستوى العالم.
في حال تدمير أقمار اصطناعية على المدار الثابت هذا يعني توقف كل عمليات الاتصال والتواصل، وهذا الأمر أيضا يعد خطرا على الأقمار الأخرى بسبب اصطدامها بجزئيات الأقمار المفجرة، وحتى على محطة الفضاء المأهولة، كما يكمن الخطر على أقمار أخرى تقوم بمهام مختلفة كأقمار التجسس والأرصاد الجوية وغيرها.
وهنا تكمن نقطة الضعف في الأنظمة الحديثة للاتصال عبر الأقمار الاصطناعية مقارنة بالأنظمة التقليدية الأرضية التي من الصعب تدميرها بضربة صاروخ.
ويبدو أن التجربة الروسية ستفتح الباب واسعا على احتمالية وقوع حرب فضائية في حال اندلاع أي حرب بين القوى العظمى، وبالأخص بين القوتين العظميين روسيا وأمريكا، وربما الصين والهند اللتين حققتا تقدما كبيرا في هذا المجال.
وهنا تقف البشرية جمعاء على حافة الخطر ذلك أن معظم دول العالم لم تعد تعتمد على الوسائل التقليدية في الاتصال والتواصل والتي ربما ستجد نفسها بين ليلة وضحاها منقطعة عن العالم الخارجي، وانعدام تواصلها على المستوى الداخلي، وتنعدم الاتصالات بين الناس لأن المنازل لم تعد مجهزة بالهواتف الأرضية التي تعمل على الكابلات، وستواجه شركات المحركات الكبرى معضلة كبيرة تقنيا وماليا، ومضاعفات كبيرة جدا على أكثر من مستوى.
وهنا لا بد من إعادة التفكير بخطة ب في حال نشوب أي حرب مقبلة من باب الاحتياط، فالتجربة الروسية بتدمير قمر اصطناعي ليست سوى البداية في سباق تسلح من نوع جديد.
٭ كاتب سوري