فرانسيسكو غابرييلي أو الاستشراق بمفاهيم حضارية: التقاطع الحضاري النادر بين الغرب والإسلام

in #gabrielli7 years ago

téléchargement.jpg
فرانسيسكو غابرييلي أو الاستشراق بمفاهيم حضارية:
التقاطع الحضاري النادر بين الغرب والإسلام
إعداد: د. خالد شيات*
تحليل مسارات وبنية وتفاعلات الاستشراق كظاهرة ثقافية وحضارية مهمة صعبة. لذلك، ودون الخوض في دلالات رفض وقبول المصطلح وتبعاته الحضارية، يمكن القول أنه على الأقل هناك تأثير للتحديد الجغرافي له، ونقصد بذلك كون الاستشراق ليس عملية تفكيك خارجية لبنية منسجمة للموروث الثقافي العربي الإسلامي بل هي أحيانا نتاج لطبيعة التفاعل مع هذا الوسط، لذلك تجد للتَماس الحضاري الذي تفاعل في المنطقة المتوسطية أثر في طبيعة الاستشراق بعكس البعد المفترض بالنسبة للاستشراق الأوربي الآخر أو الأمريكي مثلا.
والدليل على ذلك الموروث الثقافي الذي خلفه فرانسيسكو غابرييلي الإيطالي المولد، والذي نهل العربية من والده جوزيه غابرييلي الذي عمل سنوات كأمين لمكتبة "أكاديمية لينشي"، ويعتبر عامل الوراثة هذا عنصرا محددا لمسار طويل رفقة اللغة والأدب العربي لغابرييلي الابن الذي تأثر بالشعر العربي ذو الشحنة القوية، ولاسيما كونه أنهى مشواره برسالة دكتوراه حول شعر المتنبي، وهو أمر جعله متأثرا ليس فقط بالثقافة العربية وشعرها بل بالقيم الأصيلة والمعاني القوية المرتبطة بها حضاريا.
لقد بقي غابرييلي وفيا حتى مماته للأدب العربي الكلاسيكي وللغة العربية التي كان مدرسا لها بجامعة روما حتى تقاعده سنة 1979، بل وحتى مماته سنة 1996، وحري بالذكر أنه كان رجلا عالما يؤطره المنهج القويم والرؤية المنطقية والموضوعية، وبعيد عن الشحنات الحضارية المتطرفة للاستشراق في حالات كانت طاغية مع سيادة فكرة الاستعمار أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حيث ولد ذات يوم من سنة 1904. وقيمة الموضوعية هذه مسألة أساسية في استشراقه، حيث إنه طيلة مساراته الفكرية في التأليف والمساعدة عليه كان وفيا لتدوين القيم للثقافة العربية الحقة وباحثا عن مكامن الخلل في التفاعل الحضاري، ولاسيما في كتابه "المؤرخون العرب للحروب الصليبية"، الصادر بلغة صاحبه الأصلية، أي اللغة الإيطالية، والمترجم للغات متعددة منها اللغة العربية .
1- بنية التحليل في منهج غابرييلي الاستشراقي
يجمع غابرييلي بين علمين، الأدب العربي ولاسيما اهتماماته بالشعر العربي القديم وبرواده وأصنافه، حيث أثر ذلك على إنتاجاته العلمية حتى سنة 1935، حيث كان يعمل لصالح بعض الدوريات والموسوعات والتي ساهم فيها بآرائه في هذا المجال. وتاريخ الإسلام والحضارة الإسلامية التي تعد واحدة من الجبهات التي ساهم فيها بقوة طيلة مشواره البحثي.
إن هذا التنوع الثنائي في الرؤية البحثية والمسار العلمي للرجل جعله جسرا حقيقيا للتواصل المعرفي بين الحضارتين العربية الإسلامية والغربية الأوربية بالأساس. وقد كان لأعماله التوثيقية والعلمية معا منهج يدل على موضوعية شديدة وعلى منطلقات علمية بحتة لا تقوم على أي ازدراء وتعالي، على عكس المسار الاستشراقي العام الغربي بداية القرن العشرين، والذي تأثر في معضمه باتجاهات شوفينية عنصرية قائمة على أبعاد استعمارية. إن المنهج يدل على صاحبه وسواء كان في نسق أدبي خاص، حيث يعتبر شغفا ذاتيا لغابرييلي، أو نسقا معرفيا عاما، فإن غابرييلي وضع مفهوما جديدا للاستشراق في المجال الحضاري الموحد المنسوب للمنطقة المتوسطية وللمدرسة الإيطالية على وجه التحديد.
ينطلق غابرييلي من وصفات محددة قابلة للتجاوز في منطق عام، ويعتبر أن "كل مجتمع ينتج رموزا أخلاقية تصبح أدوات للهيمنة الإديولوجية" (المؤرخون العرب للحروب الصليبية، ص 70)، والحقيقة أن هذا المنطلق هو أساس الصراع في نظره، والوعي به هو مسألة ضرورية لتجاوز التأثيرات الرمزية للانتماء الحضاري الذي لا يمكن أن ينطلق إلا من تقابلات محسومة، ثم إن ذلك يستدعي نقد إمكانية "تثبيت المؤثرات الأخلاقية بتحديد أفكار خاصة عن الإنسان" (نفسه، ص 57). وكل ذلك يعني أن غابرييلي ليس له منطلقات قارة لرؤية الإنسان الفاعل في الحضارة، فهذه الأخيرة هي انعكاس لرؤية الإنسان وفاعليته في محيط يتأثر بعوامل كثيرة، لذلك يعتبر الحديث عن المنطلقات الفكرية لغابرييلي مسألة مهمة بالنسبة للقارئ الذي يريد أن يستشف رؤى وتصورات خاصة لمفهوم الحضارة، والجميل في ذلك أنها ليست رؤية ثابتة في تاريخ معين، فلم يكن عمل غابرييلي عملا تأريخيا ماضويا بل عمل مستشرف وناقد.
2- المضمون المستشرف لرؤية الحضارة والتاريخ لدى غابرييلي
كان غابرييلي مولعا برؤية الحضارة بقدر ولعه الأولي بالشعر العربي القديم، ولاسيما شعر المتنبي، ولعل اهتمامه الأولي هذا دفعه للبحث في النسق العام الذي أنتج الحضارة في حد ذاتها، وتفاعلاتها وصراعها أيضا، ومن هذا المنطلق كانت قراءته لمرحلة الحرب الصليبية، لكن غابرييلي تنبه إلى الفصل الحاد بين الرؤيتين اللتين كانتا تفصلان ضفتي أصل الصراع القائم على ما هو ديني بالأساس، والممتد إلى أبعاد متعددة، وبذلك كانت تصوره لمرحلة الحرب الصليبية تصور مقابلة ثقافية ومتوازية حضاريا؛ أي أنه أعطى الأولوية لوجهة نظر المعاصرين للمرحلة، والمؤرخين العرب والمسلمين لبسط رؤاهم المتعددة حول مفهوم الحرب الصليبية، بالقدر الذي يجعل الفكر الغربي يكتشف على الأقل الأشياء النابعة من بوثقة الحضارة الإسلامية والمتمثلة أساسا في الموضوعية والتدقيق والدقة والرؤى الاستراتيجية المتعددة لمفهوم الصراع.
امتد البحث لدى غابرييلي في فترة زمنية محددة (1096-1291) لكنه في العمق تجاوز مفهوم التاريخ بمعناه العلمي ليدخله في مجال منفتح على طبائع حددت وستحدد مستقبل الترابط الحضاري الذي يعد الإسلام جزءا منه، وفي هذا المقام لا يمكن عزل عمله هذا عن أعمال أخرى كمجموعته التي وجهها المعنونة: "تاريخ حضارة الإسلام في أوربا: من القرن السابع إلى القرن العشرين"، حيث يعد إقحام لفظ "الحضارة" انتصارا لرؤية متبصرة للباحث وبداية صحيحة لتواصل حضاري نابع من أصل الاختلاف الذي سعى ويسعى إليه الكثير في الضفتين معا.
وأهم ما في الكتاب من خلاصات غير معلنة كون التقسيم القائم على أسس دينية صرفة كان ولازال خطأ فادحا في رؤية الحضارة وفي تحديد مفهوم الصراع حولها، وكيف أن الحضارة الإسلامية كانت تعتبر المسيحية الرومية الشرقية جزءا من بنية حضارية خاصة، وكيف أن التفريق الحضاري بناء على هذه الأسس أنتج خللا في بنيات كانت ناجحة تاريخيا، وأن الإنسانية لا تحتاج لمنطلقات سلبية لمفهوم التنوع باعتباره تملكا ذاتيا بالقدر الذي تحتاج فيه لنوع من التواصل الذي يقوم على احترام البنى الأساسية للمجتمعات ويحترم تطورها الطبيعي ومسارها العادي في الانتقال الحضاري دون ضغط أو إكراه.
ومنطلق غابرييلي أيضا قائم على مفهوم التدافع العنيف من رؤية مسلمة مكلومة باجتياح كبير عم أواخر القرن الحادي عشر الميلادي كلا من شمال إفريقيا بعد سقوط أنطاكية (1086) وسقوط طليطلة، وصقلية (1091)، والهجوم على القدس الذي يعد بداية رد فعل لطرف منهزم حضاريا ضد قوة غازية قوية. وتتعدد رؤى الجانب المدافع عن مفهوم حضاري من منطلقات غابرييلي في مستويات متعددة ومن أطراف برؤى متباينة حددت مفاهيم لا زالت قابلة للتطبيق في ظل استمرار التدافع والغلبة بين طرفين محكومين بالتناقض انطلاقا من رؤى حضارية متناقضة أحيانا، لم تكتشف جوانب التكامل بعد.
لقد كانت محاولات غابريييلي متعددة في نسق مليء بالعطاء على مر تواجده في منابر علمية متعددة طيلة أكثر من نصف قرن من العطاء، لكن البناء الذي وضعه لم يجد أي دعم لا فكريا ولا ماديا لاستمرار مدرسة متفردة في الاستشراق الغربي عموما والإيطالي على وجه التحديد، إذ انطفأت شعلة متحضرة وناضجة مع وفاته سنة 1996.

  • أستاذ العلاقات الدولية، جامعة محمد الأول، وجدة، المملكة المغربية
Sort:  

Too bad i cannot read the text. But i did recognize the photo directly. Its Venezia right?

Congratulations @khalidchiat! You have completed some achievement on Steemit and have been rewarded with new badge(s) :

You published your First Post
You made your First Vote
You got a First Vote
You made your First Comment

Click on any badge to view your own Board of Honnor on SteemitBoard.
For more information about SteemitBoard, click here

If you no longer want to receive notifications, reply to this comment with the word STOP

By upvoting this notification, you can help all Steemit users. Learn how here!

Congratulations @khalidchiat! You received a personal award!

Happy Birthday! - You are on the Steem blockchain for 2 years!

You can view your badges on your Steem Board and compare to others on the Steem Ranking

Vote for @Steemitboard as a witness to get one more award and increased upvotes!

Coin Marketplace

STEEM 0.20
TRX 0.13
JST 0.030
BTC 65359.95
ETH 3492.90
USDT 1.00
SBD 2.51