الإنسان والآلة

      أهلا بالجميع،

          اليوم أحاول أن أكمل بعض الأفكار التي طرحتها في المقال السابق والمعنون بـ  ثورة البلوكشاين والقيم العالمية؛ لقد تكلمت على الثورة التي أحدثتها سلسلة الكتل في العالم ومدى الإنعكاسات الكبيرة التي جاءت بها على الحياة البشرية بشكل عام، يمكن أن أسأل نفسي سؤال واضح، وهو ما هي الأسباب التي جعلتني أهتم بالجانب القيمي لهذا الموضوع أكثر من الجانب التقني، ربما لأنني أعبر أن الجانب التقني يعد أقل أهمية بكثير في حياكة متغيرات جديدة في المجتمع من منطلق التقنية في حد ذاتها. ما أريد قوله هو محاولة فهم الإرتدادات القيمة التي يمكن رؤيتها تترجم في شكل تفاعلات إجتماعية جديدة، كما إدراك جديد للعالم الخارجي، مجمل هذه التغيرات يمكن فهمها وتحسسها في مضمون الثقافة الإنسانية مثل ما هو الحال مع الفن، والسينما، أو حتى العقائد، لكن هذا طبعا لن يقلل أهمية التكنولوجية في حد ذاتها، بل إعتبار العامل القيمي يعد مهم ينطلق من مبدأ أن الإنعكاسات القيمة والثقافية تنعكس إجتماعيا وفق السلوك والتقدير الإنساني، مثل ما هو الحالي مع الطاقة النووية والقنابل الذرية، أو حتى الأسلحة الكيماوية.   

          ولكي أوضح هذه الفكرة أكثر يمكننا النظر كيف ساهم إختراع الترنزيستور في بروز الثورة التقنية في العالم الحديث الذي بدوره أدى إلى سلسلة من التقانات الحديثة، مثل ما هو الحال مع الشبكة العنكبوتية، وسلسلة الكتل. فخصوصية الجانب العلمي لهذه التطورات تجعلها أكثر قابلة للتوثيق، الأمر ساهم فيه المجتمع الإلكتروني والأخصائيين بشكل كبير، لكن الشيء الذي أحب البحث عليه، وفهمها أيضا، هو العلاقة، أو طبيعة تطور العلاقة بين الإنسان والآلة. إذ أرى أن العمق الحقيقي والأثر الحقيقي لأي ثورة تقنية يجب فهمها عبر العمق الإجتماعي والآثار العميقة لهذه التطورات على مختلف مستويات الحياة الإنسانية.  

            قبل عدة سنوات، رأيت أحد الأفلام المعنونة بـ (PI) ولكن عرضي لهذا الفلم ليس له علاقة بالفلم بحد ذاته بقدر الإنطباع الذي تمكن من التعبير عليه، لقد تكلم غاليليو في كتبه على أن الرياضيات هي لغة الطبيعة، وهي تجسد ذلك بشكل جلي في الحضارة الإنسانية خاصة في القرن العشرين، وقد إنعكس ذلك بشكل واضح على الثقافة الإنسانية والتقدير الإنساني لمحطيه، وهذا هو الأمر الذي تمكن الفلم من تصويره، أي التفاعل الذي أصبح موجود بين الإنسان والآلة كما قال واينر الذي يعد من أحد مؤسسي المدخل السيبرنطيقا الذي وضحه في كتابة الإنسان والآلة. الفلم عرض شخصية ماكسيميليان وهو يحاول أن يربط كل أشكال حياته بطريقة دقيقة ومضبوطة بالأرقام أن يجد أنساق معقدة من الأرقام ستمكنه في نهاية المطاف من معرفة نتائج معينة إستنادا إلى الأنساق التي وجدها. وطبعا يمكننا رؤية مثل هذه الأفكار في العديد من الأعمال الفنية والأدبية، مثل ما هو الحال مع رواية روبوت للكاتب إسحاق لأسيموف، فقد عبر العديد من الكتاب هنا على الزمن الذين يعيشون فيه كما عبر القدامى، الأمر الذي سمح لنا بمعرفة الإنطباع الثقافي للآلة أو التقانة بصفة عامة على مخيلة وحياة الشعوب.  

          المثير للتفكير هنا، هو فهم العديد من الأشخاص على أن العلاقة بين الآلة والإنسان نابغة من منطلق الذكاء الإنساني في جعل الإختراع ذو قيمة عملية ستنعكس فيما بعد على المجتمع بخلق قيم جديدة. لكن يمكننا أن نذهب إلى ابعد من ذلك، لقد تكلم الباحثين في تاريخ الضارات حول العديد من الأسئلة مثل ما هي الأسباب التي جعلت من جهات ومناطق معينة في العالم أكثر تقدما من مناطق أخرى رغم عيشهم في نفس الوقت، وقد تبينت هناك العديد من الأفكار حول أنه يمكن للأمر أن يكون له علاقة بالمعادن، بالحديد والنحاس وغير ذلك من المعادن، فبغض النظر عن القيمة التكنولوجية الذي يمكن للمعدن أن يقدمه، تم التركيز أكثر على القيمة الثقافية للمعدن، المعدن سينعكس على تقدير الأشخاص للمحيط، على تفاعل الناس مع المحيط، على الهجوم، على الدفاع، على الأمن، على السلوك الهندسي، على مختلف مستويات المعيشة عند الإنسان.